ربما تكون تصريحات رئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون الصادمة باحتمال اختفاء مدن بكاملها (ميامى فى الولايات المتحدة الأمريكية، وشنغهاى فى الصين، والإسكندرية فى مصر)، إذا استمرت معدلات ارتفاع درجة الحرارة، ووصلت إلى أكثر من 4 درجات مئوية، هى من حركت المياه الراكدة فى أزمة المناخ نتيجة عدم التزام الدول الصناعية الكبرى المسئولة عن الأزمة، بتعهداتها والتزاماتها التى أقرتها قمة باريس منذ نحو 6 سنوات.
تصريحات بوريس جونسون دقت جرس إنذار خطيرا، فالوقت لم يمر بعد، لكن الأمر يحتاج إلى جهد وعمل، والأهم هو الوفاء بالالتزامات والتعهدات من الدول الغنية الكبرى (مجموعة العشرين + مجموعة الدول النفطية) لكى تتحمل مسئوليتها فى معالجة مسببات التغير المناخى التى كانت ولاتزال هذه الدول هى المتهم الرئيسى فى حدوث التغيرات المناخية الحالية.
فى ديسمبر عام 2015 وقعت 195 دولة على اتفاقية باريس للمناخ التى تم إقرارها فى اختتام القمة، ودخلت حيز التنفيذ رسميًا فى نوفمبر 2016 وصدقت عليها 189 دولة حتى الآن.
اتفاق باريس كان ولايزال يستهدف الحد بشكل مباشر من الانبعاثات التى تؤدى إلى ظاهرة الاحتباس الحرارى، وذلك تفاديا لارتفاع درجة الحرارة درجتين مئويتين وتكثيف الجهود لعدم الزيادة المتوقعة على 1.5 درجة مئوية.
ارتفاع درجة الحرارة أكثر من 1.5 درجة يهدد الجزر الواقعة فى البحار والمحيطات نتيجة ارتفاع مستوى سطح البحر إذا لم تتكاتف الجهود لوقف هذا الارتفاع عند حدود 1.5 درجة فقط.
نص اتفاق باريس على ضرورة تقليص انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحرارى، من خلال الحد من استهلاك الطاقة خاصة ما يتعلق بالوقود الأحفورى غير المرفق بأنظمة احتجاز الكربون.
للأسف الشديد لم يمر عام على دخول اتفاق باريس حيز التنفيذ حتى جاء إعلان الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب بالانسحاب من هذا الاتفاق ليكون بمثابة ضربة موجعة وقاسية على اعتبار أن أمريكا هى التى تحتل النصيب الأكبر فى انبعاثات ثانى أكسيد الكربون الضار على مدى أكثر من 3 قرون وبنسبة تبلغ نحو 25% يليها دول أوروبا بنسبة 22%، ثم الصين 12.5%، وأخيرًا الهند 3%، فى حين أن نصيب كل دول قارة إفريقيا لا يتجاوز 3% فقط.
خروج الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق «أربك» الحسابات ولم تلتزم معظم الدول بتعهداتها فى هذا الإطار، ولم يتجاوز حجم التمويل لمكافحة تغير المناخ فى الدول النامية خلال عامى 2017/2018 على سبيل المثال مبلغ 22 مليار دولار تقريبا، وهو مبلغ هزيل إذا تمت مقارنته بالأرقام المستهدفة التى يجب ألا تقل عن 100 مليار دولار سنويا.
ميزة اتفاق باريس أنه وفر إطارا عاما ودائما لمواجهة أزمة المناخ، كما وفر طريقا للدول المتقدمة لمساعدة الدول النامية، ونص الاتفاق على إجراء عمليتى مراجعة كل واحدة على مدى خمس سنوات.
بعد 6 سنوات من توقيع الاتفاق (ديسمبر 2015)، و 5 سنوات من دخوله حيز التنفيذ (نوفمبر 2016)، وتصديق 189 دولة عليه، جاءت قمة جلاسجو بعد عودة الولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى إلى الاتفاق، ومشاركة الرئيس الامريكى جو بايدن فيها، والذى أكد خلالها على أنه يجب أن تكون قمة «جلاسجو» انطلاقة جديدة للعمل ضد تغير المناخ، وأن الولايات المتحدة تعانى من ظواهر المناخ المتطرفة، معترفاً حسب قوله: «تسببنا فى تلويث المناخ والبيئة، ومن الحتمى تغيير ممارستنا».
تصريحات مهمة من الرئيس الأمريكى لكنها ليست كافية لأن الواقع غير التصريحات، ومن المهم أن تقوم الولايات المتحدة باعتبارها صاحبة نصيب الأسد فى مسببات التلوث بدورها فى مواجهة تلك الأزمة العالمية التى تهدد الكرة الأرضية بكاملها.
وعدت الدول الغنية فى عام 2009 بتقديم 100 مليار دولار سنويا بدءا من 2020 لمساعدة الدول النامية على تمويل استخدام الطاقة النظيفة والمتجددة للحد من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحرارى، على أن يكون هذا هو «حدا أدنى»، إلا أن الصراع بين الدول الصناعية الكبرى والخلاف المكتوم بينها امتد إلى ضرورة مطالبة الصين وكوريا وسنغافورة والدول النفطية بضرورة المساهمة، وربما يكون ذلك الصراع كان أحد الأسباب التى أدت إلى انسحاب ترامب من الاتفاقية قبل أن يعود بايدن إليها مرة أخرى.
فى قمة «جلاسجو» كانت لغة الخطاب لقادة الدول المشاركة تحمل قدرا كبيرا من الإحساس بالمسئولية بداية من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش الذى أكد أنه قد آن الأوان للقول «كفى»، وأنه يجب إنقاذ مستقبلنا، مطالباً بضرورة «إنقاذ البشرية»، وعدم حفر قبورنا بأيدينا.
كلمات قوية وواضحة تفاعل معها رؤساء وقادة الدول المشاركة إلا أن المشكلة تكمن دائما فى تكرار التعهدات والالتزامات فى حين يكون المردود على أرض الواقع مختلفا، ولا يتماشى مع تلك التعهدات والالتزامات.
على الجانب المقابل كان الموقف المصرى قويا وحاسما،ً فمصر رغم ظروفها الاقتصادية، ورغم أنها لم تكن أبداً ضمن الدول التى تسببت فى كارثة المناخ إلا أن الرئيس عبدالفتاح السيسى أوضح أمام القمة أن مصر بادرت باتخاذ خطوات جادة لتطبيق نموذج تنموى مستدام يهدف إلى الوصول بنسبة المشروعات الخضراء الممولة حكومياً إلى 50% بحلول 2025، و100% بحلول 2030.
أوضح الرئيس أن مصر انتهت من إعداد الإستراتيجية الوطنية لتغير المناخ 2050، والتى ستفتح الطريق أمام تحديث مصر لمساهمتها المحددة وطنيا، وأن مصر تعمل على زيادة مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة إلى 42% بحلول 2035.
أى أن مصر برغم أنها دولة نامية فإنها تدرك واجباتها وقامت بما يجب أن تقوم به، لذلك فقد واجه الرئيس الدول الكبرى بضرورة تحمل مسئوليتها والالتزام بتعهداتها والالتزام بتقديم الـ 100 مليار دولار سنويا للدول النامية من أجل أن تستطيع تلك الدول الوفاء بالتزاماتها فى هذا الإطار، لأن الدول النامية تعانى من تبعات أزمة المناخ رغم أنها لم تكن متسببة فى تلك الأزمة.
الدول المتقدمة الكبرى هى التى تسببت فى الأزمة منذ حوالى 4 قرون وبالتحديد منذ بدء الثورة الصناعية، وعليها تحمل مسئوليتها لأن الضرر الناجم عن تلك الأزمة سوف يلحق بالكرة الأرضية «مجتمعة».
قد تكون الدول النامية والفقيرة هى الأكثر تضررا على المدى القصير، لكن الضرر سوف يلحق بالبشرية جميعها على المدى الطويل خاصة إذا استمرت الدول الكبرى فى «التنكر لوعودها والتزاماتها كما فعلت فى اتفاق باريس منذ خمس سنوات.
خمس سنوات كانت كفيلة بدوران عجلة إنقاذ البشرية، وبدء السير فى الطريق العملى لوقف تدهور أحوال المناخ على كل مناطق الكرة الأرضية.