يأتى تمايز القمة الروسية ـ الإفريقية الحالية فى سان بطرسبرج من الرهان الروسى المتزايد على تعميق علاقتها بإفريقيا، بعد انهيار العلاقات بين روسيا وأوروبا فى أعقاب الحرب الأوكرانية، وروسيا تأمل أن تكون العلاقات مع إفريقيا أكثر متانة، وتريد تأكيد أنها تنشئ علاقات مع البلدان الإفريقية على أسس مختلفة عن الغرب، وتكريس علاقات شراكة تقوم على أسس تبادل المنفعة، وشراكة على ركائز من المساواة، واحترام سيادة الدول وعدم التدخل فى شئونها الداخلية، ويساعد روسيا فى توجهها نحو إفريقيا أنها تبنى على إرث الاتحاد السوفييتى الذى دعم بقوة حركات التحرر الوطني.
وتأتى هذه القمة بعد سبعة أشهر من القمة الأمريكية الإفريقية، ولذلك فإن المقارنة ستكون حاضرة بين القمتين، سواء من حيث الأهداف أو النتائج، وكان جدول أعمال القمة الروسية ــ الإفريقية متميزا، ومليئا بالقضايا المهمة، من بينها وضع إفريقيا على طريق التقدم التكنولوجي، ومواكبة الذكاء الاصطناعي، ورغم أهمية مناقشة قضايا التقدم العلمى والتغير المناخي، فكان قادة إفريقيا الذين مثلوا 49 دولة يركزون على القضايا الراهنة، دون إهمال القضايا المستقبلية، وكانت قضية الأمن الغذائى وتوريد القمح الروسى إلى بلدان القارة قد احتلت أولوية فى جدول الأعمال، ووعدت روسيا بتوريد القمح الروسى إلى البلدان الإفريقية إما بالمجان للدول الأكثر فقرا، أو بأسعار تفضيلية لباقى البلدان، وتترقب البلدان الإفريقية إمدادات القمح الروسي، فى ظل الصعود السريع لأسعار القمح بعد انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب لعدم التزام أوروبا بتعهداتها، لتصبح روسيا أمام مسئولية إمداد إفريقيا بالقمح الروسي، لكن المناقشات امتدت إلى نطاق أوسع، يتعلق بالأمن الغذائى المستدام فى إفريقيا، لتصبح القارة منتجة لغذائها وعندها فائض كبير تصدره لبلدان العالم، فالقارة الإفريقية مليئة بالخيرات، وبها أجود الأراضى وتتوافر مياه الأمطار والأنهار والأيدى العاملة.
وتكمن المشكلة فى الاستثمارات، لأن الزراعة تعتمد على سلسلة طويلة من المنتجات، وتشمل البذور والأسمدة والآلات الزراعية الحديثة، وأنظمة الري، وأضيفت التغيرات المناخية كإحدى التحديات الجديدة التى تواجه القارة.
واحتلت العلاقات المصرية - الروسية مكانة خاصة داخل القارة السمراء، لأن مصر تمثل حجر الزاوية من حيث حجم التبادل التجارى بين مصر وروسيا، وأنها المدخل الطبيعى للقارة، فالعلاقات المصرية الروسية ذات جذور عميقة تمتد لنحو ثمانين عاما، تعززها العلاقة القوية بين الرئيسين عبدالفتاح السيسى وفلاديمير بوتين، وظهر ذلك جليا فى لقاء الزعيمين وحفاوة الاستقبال، حيث أعرب الرئيس الروسى بوتين عن اعتزازه بالعلاقات المصرية الروسية، مشيرٌا إلى أنها تكتسب قوة طوال الوقت، مختتما حديثه بأن «المشاركة فى تنظيم الفعالية الإنسانية سيساعد - بلا شك - على التقريب بين البلدين، سعيد جدا برؤيتكم أهلا وسهلا».
بينما نوه الرئيس السيسى إلى الاستثمارات الروسية للطاقة النووية فى محطة الضبعة، وهى مشروع رائد فى إفريقيا، ويحقق الحلم الذى ظل يراود مصر منذ خمسينيات القرن الماضي، وتحقق أخيرا فى عهد الرئيس السيسى مع دخول المشروع حيز التنفيذ، إلى جانب المنطقة الصناعية الروسية فى محور قناة السويس، والتى تتجاوز استثماراتها 7 مليارات دولار، ومن المقرر توسيعها من حيث الحجم ونوعية الصناعات، لتصبح واحدة من أهم المناطق الصناعية فى محور قناة السويس، وكذلك دخول روسيا فى تطوير خطوط وقطارات السكك الحديدية فى مصر، وهو أحد المشروعات القومية المهمة فى البنية الأساسية.
وما يسهل تدفق الاستثمارات الروسية أن الموانى المصرية وباقى متطلبات الصناعات الحديثة توافرت لدى مصر، وقد أنفقت الكثير من أجل استكمالها ونشرها على أوسع نطاق جغرافي، لتحقق التنمية الشاملة والأوسع، كما جرت مناقشة التبادل التجارى بالعملات المحلية، بما يعزز مكانة عملتى البلدين، ويجنبهما الاهتزازات التى تسببت فيها أزمات عالمية متلاحقة، بدءا من جائحة كوفيد إلى الحرب الأوكرانية، أضيف إليهما أزمة الديون الإفريقية، التى تتزايد مع ارتفاع أسعار السلع، ومعدلات التضخم الكبيرة التى تجتاح العالم، ورفع سعر الفائدة فى البنوك، وكانت الآراء السائدة أن التنمية الإفريقية، والاستثمار فى مجالات الصناعة والزراعة والبنية الأساسية والتكنولوجيا تعبدالطريق نحو رفع الناتج المحلى للقارة، وبالتالى تتجنب أزمات الغذاء والديون، وتتعزز سيادتها واستقلالها.
وكان القاسم المشترك الأكثر قوة وحماسا قد تمثل فى تأكيد روسيا دعم توجه القارة السمراء نحو تحقيق التنمية الشاملة، وأن تصبح قادرة على استغلال مواردها بأفضل طرق التكنولوجيا، وأن تضاعف إنتاجها من الغذاء والصناعات المحلية، لتحقق ما تصبو إليه القارة من أن تكون بين البلدان الناشئة، وأن تصبح رقما أساسيا بين القوى العالمية فى عالم متعدد الأقطاب، وظهر حماس دول إفريقية عدة للتبادل التجارى بالعملات المحلية، وتوسيع مجموعة بريكس لتضم المزيد من البلدان الإفريقية، وعلى رأسها مصر والجزائر ودول أخرى، لتصبح أكبر مجموعة اقتصادية فى العالم سيكون من شأنها تعديل موازين القوى الدولية لصالح البلدان الناشئة، وأن تفتح مسارات جديدة أمام خطط التنمية المستقلة، وأن تتجنب ضغوط البنوك الأجنبية وشروطها الصعبة، وتحكم سيطرتها على مواردها، وتستطيع استغلالها وتطوير إنتاجها، وتحويلها إلى مواد صناعية وزراعية، وليس خامات تمد الصناعات الأجنبية، وتستوردها بأسعار مضاعفة تنهك ميزانياتها.
يسود التفاؤل قادة القارة الإفريقية من نتائج القمة الروسية الإفريقية فى سان بطرسبرج، ووجدوا فيها نقاشات جادة وقرارات قابلة للتنفيذ، تعبر عن تقارب الرؤى وتوافق كبير فى الأهداف، يحقق للقارة الإفريقية الكثير من المكاسب، وتأمل أن تكون ساحة للتنافس الإيجابى على إقامة المشروعات وجذب الاستثمارات التى تعود بالنفع على أبناء القارة، وسيكون من شأنها أن تحفز المزيد من الدول الكبرى على توجيه الاستثمارات نحو القارة السمراء، وأن تتعامل معها على أسس من المساواة والاحترام المتبادل وعدم التدخل وتعزيز الاستقرار والسيادة الوطنية لدول القارة، وأصبحت مصر نموذجا لمثل هذا التفاعل الإيجابى والخلاق مع الدول الكبرى، وأقامت معها شراكات تستهدف رفع معدلات التنمية، وتحقيق المنفعة المتبادلة، وجعلت مصر من مشروع قناة السويس ومحاوره منطقة جذب وتنافس عالميين، من شأنه أن يجعل مصر رائدة فى التنمية الشاملة، ومركزا صناعيا وتجاريا وخدميا، بما تمتلكه من مقومات تجعلها فى صدارة القوى الواعدة.